تفسير الطبري تفسير الصفحة 601 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 601
602
600
 سورة العصر مكيّة
وآياتها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم

الآية : 1-3
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وَالْعَصْرِ فقال بعضهم: هو قَسَم أقسم ربنا تعالى ذكره بالدهر, فقال: العصر: هو الدهر. ذكر من قال ذلك:
29279ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: وَالْعَصْرِ قال: العصر: ساعة من ساعات النهار.
29280ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن وَالْعَصْرِ قال: هو العشيّ.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن ربنا أقسم بالعصر وَالْعَصْرِ اسم للدهر, وهو العشيّ والليل والنهار, ولم يخصص مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى, فكلّ ما لزِمه هذا الاسم, فداخل فيما أقسم به جلّ ثناؤه.
وقوله: إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ يقول: إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان. وكان عليّ رضي الله عنه يقرأ ذلك: «إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ, وإنه فيه إلى آخر الدهر».
29281ـ حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل, قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين, قال: أخبرنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عمر ذي مرّ, قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقرأ هذا الحرف: «وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدّهْرِ, إن الإنْسانَ لفي خُسْرٍ, وإنه فيه إلى آخر الدهر».
29282ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ففي بعض القراءات: «وإنه فيه إلى آخر الدهر».
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو ذي مرّ, أن عليا رضي الله عنه قرأها: «وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدّهْرِ, إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ».
29283ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إلاّ من آمن.
إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول: إلاّ الذين صدّقوا الله ووحّدوه, وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة, وعملوا الصالحات, وأدّوا ما لزمهم من فرائضه, واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه, واستثنى الذين آمنوا عن الإنسان, لأن الإنسان بمعنى الجمع, لا بمعنى الواحد.
وقوله: وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه, من أمره, واجتناب ما نهى عنه فيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29284ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ والحقّ: كتاب الله.
29285ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ قال: الحقّ كتاب الله.
حدثني عمران بن بكّار الكُلاعِيّ, قال: حدثنا خطاب بن عثمان, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سنان أبو رَوْح السّكونيّ, حِمْصيّ لقيته بإرمينية, قال: سمعت الحسن يقول في وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ قال: الحقّ: كتاب الله.
وقوله: وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ يقول: وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29286ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ قال: الصبر: طاعة الله.
29287ـ حدثني عمران بن بكار الكُلاعي, قال: حدثنا خطاب بن عثمان, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سنان أبو روح, قال: سمعت الحسن يقول في قوله وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ قال: الصبر: طاعة الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن وَتَوَاصَوْا بالصّبْرِ قال: الصبر: طاعة الله.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة العصر

سورة الهمزة مكيّة
وآياتها تسع
بسم الله الرحمَن الرحيم

الآية : 1-9
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لّمَزَةٍ * الّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدّدَهُ * يَحْسَبُ أَنّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاّ لَيُنبَذَنّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ * الّتِي تَطّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ * إِنّهَا عَلَيْهِم مّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مّمَدّدَةِ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ الوادي يسيل من صديد أهل النار وقيحهم, لكلّ همزة: يقول: لكلّ مغتاب للناس, يغتابهم ويغضهم, كما قال زياد الأعجم:
تُدْلي بوُدّي إذا لاقَيْتَنِي كَذِباوإنْ أُغَيّبْ فأنتَ الهامِزُ اللّمَزَهْ
ويعني باللّمَزة: الذي يعيب الناس, ويطعن فيهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29288ـ حدثنا مسروق بن أبان, قال: حدثنا وكيع, عن رجل لم يسمه, عن أبي الجوزاء, قال: قلت لابن عباس: مَنْ هؤلاء هم الذين بدأهم الله بالويل؟ قال: هم المَشّاءون بالنميمة, المفرّقون بين الأحبة, الباغون أكبر العيب.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن أبيه, عن رجل من أهل البصرة, عن أبي الجوزاء, قال: قلت: لابن عباس: من هؤلاء الذين ندبهم الله إلى الويل؟ ثم ذكر نحو حديث مسروق بن أبان.
29289ـ حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: الهمزة يأكل لحوم الناس, واللمزة: الطعان.
وقد رُوي عن مجاهد خلاف هذا القول, وهو ما:
29290ـ حدثنا به أو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ قال: الهمزة: الطّعّان, واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس.
حدثنا مسروق بن أبان الحطاب, قال: حدثنا وكيع, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
ورُوي عنه أيضا خلاف هذين القولين, وهو ما:
29291ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: أحدهما الذي يأكل لحوم الناس, والاَخر الطعان.
وهذا يدلّ على أن الذي حدّث بهذا الحديث قد كان أشكل عليه تأويل الكلمتين, فلذلك اختلف نقل الرواة عنه ما رووا على ما ذكرت.
29292ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أما الهمزة: فآكل لحوم الناس, وأما اللمزة: فالطعان عليهم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سعيد بن أبي عَروبة, عن قتادة, قال: الهمزة: آكل لحوم الناس: واللمزة: الطعان عليهم.
29293ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن ابن خثيم, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس: وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: ويل لكلّ طعان مغتاب.
29294ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, قال: الهُمزة: يهمزه في وجهه, واللمزة: من خلفه.
29295ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه, ويأكل لحوم الناس, ويطعن عليهم.
29296ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الهُمَزة باليد, واللّمَزة باللسان.
وقال آخرون في ذلك ما:
29297ـ حدثني به يونُس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: الهمزة: الذي يهمز الناس بيده, ويضربهم بلسانه, واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم.
واختُلِف في المعنيّ بقوله: وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك: رجل من أهل الشرك بعينه, فقال بعض من قال هذا القول: هو جميل بن عامر الجُمَحيّ. وقال آخرون منهم: هو الأخنس بن شريق. ذكر من قال: عُنِي به مشرك بعينه:
29298ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: مشرك كان يَلْمِزُ الناس ويَهْمِزُهُمْ.
29299ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن رجل من أهل الرّقّة قال: نزلتْ في جميل بن عامر الجُمَحيّ.
29300ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, في قوله هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: ليست بخاصة لأحد, نزلتْ في جميل بن عامر قال ورقاء: زعم الرقاشيّ.
وقال بعض أهل العربية: هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء العام, وهي تقصد به الواحد, كما يقال في الكلام, إذا قال رجل لأحد: لا أزورك أبدا: كل من لم يزرني, فلست بزائره, وقائل ذلك يقصد جواب صاحبه القائل له: لا أزورك أبدا.
وقال آخرون: بل معنيّ به, كلّ من كانت هذه الصفة صفته, ولم يقصد به قصد آخر. ذكر من قال ذلك:
29301ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال: ليست بخاصة لأحد.
والصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن الله عمّ بالقول كلّ همزة لمزة, كلّ من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها, سبيله سبيله كائنا من كان من الناس.
وقوله: الّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدّدَهُ يقول: الذي جمع مالاً وأحصى عدده, ولم ينفقه في سبيل الله, ولم يؤدّ حقّ الله فيه, ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأه من قرّاء أهل المدينة أبو جعفر, وعامة قرّاء الكوفة سوى عاصم: «جَمّع» بالتشديد, وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والحجاز, سوى أبي جعفر وعامة قرّاء البصرة, ومن الكوفة عاصم, «جَمَع» بالتخفيف, وكلهم مجمعون على تشديد الدال من عَدّدَهُ, على الوجه الذي ذكرت من تأويله. وقد ذُكر عن بعض المتقدّمين بإسناد غير ثابت, أنه قرأه: «جَمَعَ مالاً وَعَدَدَهُ» بتخفيف الدال, بمعنى: جمع مالاً, وجمع عشيرته وعَدَدَه. هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها, بخلافِها قراءة الأمصار, وخروجِها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك.
وأما قوله: جَمَعَ مالاً فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان, لأنهما قراءتان معروفتان في قَرَأَة الأمصار, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: يَحْسَبُ أنّ مالَهُ أخْلَدَهُ يقول: يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه, وبخل بإنفاقه, مُخلدُه في الدنيا, فمزيلٌ عنه الموت. وقيل: أخلده, والمعنى: يخلده, كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سببا لهلاكه: عَطِب والله فلان, وهلك والله فلان, بمعنى: أنه يَعْطَب من فعله ذلك, ولما يهلك بعد ولم يعطب وكالرجل يأتي المُوبِقة من الذنوب: دخل والله فلان النار.
وقوله: كَلاّ يقول تعالى ذكره: ما ذلك كما ظنّ, ليس مالُه مخلدَه, ثم أخبر جلّ ثناؤه أنه هالك ومعذّب على أفعاله ومعاصيه, التي كان يأتيها في الدنيا, فقال جلّ ثناؤه: لَيُنْبَذَنّ فِي الْحُطَمَةِ: يقول: ليُقذفنّ يوم القيامة في الحُطَمة, والحطمة: اسم من أسماء النار, كما قيل لها: جهنم وسَقَر ولَظَى, وأحسبها سميت بذلك لحَطْمِها كلّ ما ألقي فيها, كما يقال للرجل الأكول: الحُطَمَة.
وذُكر عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك: «لَيُنْبَذَانّ فِي الْحُطَمَةِ» يعني: هذا الهمزة اللمزة وماله, فثنّاه لذلك.
وقوله: وَما أدْرَاكَ ما الْحُطَمَةُ يقول: وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما الحطمة, ثم أخبره عنها ما هي, فقال جلّ ثناؤه: هي نارُ اللّهِ المُوقَدَةُ الّتِي تَطّلِعُ عَلى الأفْئِدَةِ يقول: التي يطلع ألمها ووَهَجُها القلوب والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى. حُكي عن العرب سماعا: متى طَلَعْتَ أَرْضَنا وطلعتُ أرضي: بلغت.
وقوله: إنّها عَلَيهِمْ مُؤْصَدَةٌ يقول تعالى ذكره: إن الحُطَمة التي وصفت صفتها عليهم, يعني: على هؤلاء الهمّازين اللمّازين مُؤْصَدةٌ: يعني: مطبقة وهي تُهْمَز ولا تُهْمَز وقد قُرئتا جميعا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29302ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا طَلْق, عن ابن ظهير, عن السديّ, عن أبي مالك, عن ابن عباس في مؤصدة: قال: مُطْبَقَة.
29303ـ حدثني عبيد بن أسباط, قال: ثني أبي, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية, في قوله: إنّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ قال: مُطْبَقَة.
29304ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: في النار رجل في شِعْب من شِعابها ينادي مقدار ألف عام: يا حنّان يا منّان, فيقول ربّ العزّة لجبريل: أخرج عبدي من النار, فيأتيها فيجدها مُطْبَقَة, فيرجع فيقول: يا ربّ إنّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فيقول: يا جبريل فُكّها, وأخرج عبدي من النار, فيفكها, ويخرج مثل الخيال, فيُطرح على ساحل الجنة حتى يُنبت الله له شعرا ولحما ودما.
29305ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: إنّها عَلَيْهمْ مُؤْصَدَةٌ قال: مطْبَقة.
29306ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن مضرس بن عبد الله, قال: سمعت الضحاك إنّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ قال: مطبقة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: إنّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ قال: عليهم مغلقة.
29307ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّها علَيْهِمْ مُؤْصدَةٌ: أي مطبقة.
29308ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ قال: مطبقة.
والعرب تقول: أوصد الباب: أغلق. وقوله: فِي عَمَدٍ مُمَدّدَةٍ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: فِي عَمَدٍ بفتح العين والميم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «فِي عُمُدٍ» بضم العين والميم. والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان, قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء, ولغتان صحيحتان. والعرب تجمع العمود: عُمُدا وعَمَدا, بضم الحرفين وفتحهما, وكذلك تفعل في جمع إهاب, تجمعه: أُهُبا, بضم الألف والهاء, وأَهَبا بفتحهما, وكذلك القضم, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم: إنها عليهم مُؤصدة بعمد ممدّدة: أي مغلقة مطبقة عليهم, وكذلك هو في قراءة عبد الله فيما بلغنا.
29309ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن قتادة, في قراءة عبد الله: «إنّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدّدَةٍ».
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما دخلوا في عمد, ثم مدّت عليهم تلك العمد بعماد. ذكر من قال ذلك:
29310ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس فِي عَمَدٍ مُمَدّدَةٍ قال: أدخلهم في عمد, فمدّت عليهم بعماد, وفي أعناقهم السلاسل, فسُدّت بها الأبواب.
29311ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فِي عَمَدٍ من حديد مغلولين فيها, وتلك العمد من نار قد احترقت من النار, فهي من نار مُمَدّدةٍ لهم.
وقال آخرون: هي عَمَد يعذّبون بها. ذكر من قال ذلك:
29312ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فِي عَمَدٍ مُمَدّدَةٍ كنا نحدّث أنها عمد يعذّبون بها في النار, قال بشر: قال يزيد: في قراءة قتادة: عَمَدٍ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مِهْران, عن سعيد, عن قتادة فِي عَمَدٍ مُمَدّدَةٍ قال: عمود يعذّبون به في النار.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: معناه: أنهم يعذّبون بعمد في النار, والله أعلم كيف تعذيبه إياهم بها, ولم يأتنا خبر تقوم به الحجة بصفة تعذيبهم بها, ولا وُضِعَ لنا عليها دليل, فندرك به صفة ذلك, فلا قول فيه, غير الذي قلنا يصحّ عندنا, والله أعلم.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الهمزة

سورة الفيل مكية
وآياتها خمس
بسم الله الرحمَن الرحيم

الآية : 1-5
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك, فترى بها كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحَابِ الْفِيلِ الذين قَدِموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحَبَشة ورئيسهم أبرهة الحبشيّ الأشرم أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ يقول: ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ يعني: في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها.
وقوله: وأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أبابِيلَ يقول تعالى ذكره: وأرسل عليهم ربك طيرا متفرّقة, يتبع بعضها بعضا من نواح شتى وهي جماع لا واحد لها, مثل الشماطيط والعباديد ونحو ذلك. وزعم أبو عُبيدة معمر بن المثنى, أنه لم ير أحدا يجعل لها واحدا. وقال الفرّاء: لم أسمع من العرب في توحيدها شيئا. قال: وزعم أبو جعفر الرّؤَاسِيّ, وكان ثقة, أنه سمع أن واحدها: إبالة. وكان الكسائي يقول: سمعت النحويين يقولون: إبول, مثل العجول. قال: وقد سمعت بعض النحويين يقول: واحدها: أبيل.
وبنحو الذي قلنا في الأبابيل: قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29313ـ حدثنا سوّار بن عبد الله, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن زرّ, عن عبد الله, في قوله: طَيْرا أبابِيلَ قال: فرق.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا حماد بن سَلمَة, عن عاصم, عن زِرّ, عن عبد الله, قال: الفِرَق.
29314ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: طَيْرا أبابِيلَ قال: يتبع بعضُها بعضا.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أبابِيلَ قال: هي التي يتبع بعضُها بعضا.
29315ـ حدثنا ابن المثنى, قال: ثني عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل, أنه قال في: طَيْرا أبابِيلَ قال: هي الأقاطيع, كالإبل المؤَبّلة.
29316ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القُمّيّ, عن جعفر, عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى طَيْرا أبابِيلَ قال: متفرّقة.
29317ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, قال: حدثنا الفضل, عن الحسن طَيْرا أبابِيلَ قال: الكثيرة.
29318ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن ابن سابط, عن أبي سلمة, قالا: الأبابيل: الزّمَر.
29319ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: أبابِيلَ قال: هي شتى متتابعة مجتمعة.
29320ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: الأبابيل: الكثيرة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: الأبابيل: الكثيرة.
29321ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: طَيْرا أبابِيلَ يقول: متتابعة. بعضُها على أَثَرَ بعض.
29322ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: طَيْرا أبابِيلَ قال: الأبابيل: المختلفة, تأتي من ها هنا, وتأتي من ها هنا, أتتهم من كلّ مكان.
وذُكر أنها كانت طيرا أُخرجت من البحر. وقال بعضهم: جاءت من قِبَل البحر.
ثم اختلفوا في صفتها, فقال بعضهم: كانت بيضاء. وقال آخرون: كانت سوداء. وقال آخرون: كانت خضراء, لها خراطيم كخراطيم الطير, وأكفّ كأكفّ الكلاب.
29323ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَية, عن ابن عون, عن محمد بن سيرين, في قوله: طَيْرا أَبَابِيلَ قال: قال ابن عباس: هي طير, وكانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الطير, وأكفّ كأكفّ الكلاب.
حدثني الحسن بن خَلف الواسطيّ, قال: حدثنا وكيع ورَوْح بن عبادة, عن ابن عون, عن ابن سيرين عن ابن عباس, مثله.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن ابن عون, عن ابن عباس, نحوه.
29324ـ حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حسين, عن عكرِمة, في قوله: طَيْرا أبابِيلَ قال: كانت طيرا خُضْرا, خرجت من البحر, لها رؤوس كرؤوس السباع.
29325ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن عبيد بن عُمير طَيْرا أبابِيلَ قال: هي طير سُود بَحْرية, في مناقرها وأظفارها الحجارة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن عبيد بن عمير: طَيْرا أبابِيلَ قال: سُود بَحْرية, في أظافيرها ومناقيرها الحجارة.
قال: ثنا مهران, عن خارجة, عن عبد الله بن عون, عن ابن سيرين, عن ابن عباس قال: لها خراطيم كخراطيم الطير, وأكفّ كأكفّ الكلاب.
29326ـ حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعيّ, قال: حدثنا فضيل بن عياض, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبير, في قوله: طَيْرا أبابِيلَ قال: طير خُضْر, لها مناقير صُفْر, تختلف عليهم.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن عبيد بن عمير, قال: طيرا سودا تحمل الحجارة في أظافيرها ومناقيرها.
وقوله: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجّيلٍ يقول تعالى ذكره: ترمي هذه الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أصحاب الفيل, بحجارة من سجيل.
وقد بيّنا معنى سجيل في موضع غير هذا, غير أنا نذكر بعض ما قيل من ذلك في هذا الموضع, من أقوال مَنْ لم نذكره في ذلك الموضع. ذكر من قال ذلك:
29327ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن السديّ, عن عكرِمة, عن ابن عباس حِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ قال: طين في حجارة.
29328ـ حدثني الحسين بن محمد الذارع, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن عكرِمة, عن ابن عباس تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ قال: من طين.
29329ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن السّدّي, عن عكرِمة, عن ابن عباس حِجَارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ قال: سنك وكل.
29330ـ حدثني الحسين بن محمد الذارع, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن عُمارة بن أبي حفصة, عن عكرِمة, في قوله: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ قال: من طين.
29331ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن شَرْقِي, قال: سمعت عكرِمة يقول: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ قال: سنك وكل.
29332ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن عكرِمة, قال: كانت ترميهم بحجارة معها, قال: فإذا أصاب أحدهم خرج به الجُدَريّ, قال: كان أوّل يوم رُؤي فيه الجدريّ قال: لم يُر قبل ذلك اليوم, ولا بعده.
29333ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن موسى بن أبي عائشة, قال: ذكر أبو الكُنود, قال: دون الحِمّصة وفوق العدسة.
29334ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن موسى بن أبي عائشة, قال: كانت الحجارة التي رُمُوا بها أكبرَ من العدَسة وأصغر من الحِمّصَةِ.
29335ـ قال: ثنا أبو أحمد الزّبيريّ, قال: حدثنا إسرائيل, عن موسى بن أبي عائشة, عن عمران, مثله.
29336ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن السديّ, عن عكرمة, عن ابن عباس: سجّيل بالفارسية: سنك وكل, حَجَر وطين.
29337ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر بن سابط, قال: هي بالأعجمية: سنك وكل.
29338ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كانت مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه, وحجر في منقاره, فجعلت ترميهم بها.
29339ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة حِجَارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ قال: هي من طين.
29340ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: هي طير بِيض, خرجت من قِبَل البحر, مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حَجران في رجليه, وحجر في منقاره, ولا يصيب شيئا إلا هشَمه.
29341ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو بن الحارث بن يعقوب أن أباه أخبره أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة, كانت تحملها بأفواهها, ثم إذا ألقتها نَفِط لها الجلد.
وقال آخرون: معنى ذلك: ترميهم بحجارة من سماء الدنيا. ذكر من قال ذلك:
29342ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ قال: السماء الدنيا, قال: والسماء الدنيا اسمها سجّيل, وهي التي أنزل الله جلّ وعزّ على قوم لوط.
29343ـ قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة, أنها طير تخرج من البحر, وأن سجيل: السماء الدنيا.
وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل, ولا لغة, وأسماء لا تُدرك إلا من لغة سائرة, أو خبر من الله تعالى ذكره.
وكان السبب الذي من أجله حلّت عقوبة الله تعالى بأصحاب الفيل, مسير أبرهة الحبشيّ بجنده معه الفيل, إلى بيت الله الحرام لتخريبه. وكان الذي دعاه إلى ذلك فيما:
29344ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: حدثنا ابن إسحاق, أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء, وكان نصرانيا, فسماها القُلّيْس لم يُر مثلها في زمانها بشي من الأرض وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إن قد بنيت لك أيها الملك كنيسة, لم يُبن مثلها لملك كان قبلك, ولستُ بمُنته حتى أصرف إليها حاجّ العرب. فلما تحدّثت العرب بكتاب أبرهة ذلك للنجاشيّ, غضب رجل من النّسَأة أحد بن فُقَيم, ثم أحد بني ملك, فخرج حتى أتى القُلَيس, فقعد فيها, ثم خرج فلحق بأرضه, فأُخْبر أبرهة بذلك, فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت, الذي تحجّ العرب إليه بمكة, لما سمع من قولك: أصرف إليه حاجّ العرب, فغضب, فجاء فقعد فيها, أي أنها ليست لذلك بأهل فغضب عند ذلك أبرهة, وحلف ليسيرنّ إلى البيت فيهدمه, وعند أبرهة رجال من العرب قد قَدِموا عليه يلتمسون فضله, منهم محمد بن خُزَاعي بن حِزَابة الذّكواني, ثم السّلَمي, في نفر من قومه, معه أخ له يقال له قيس بن خزاعي فبينما هم عنده, غَشِيهم عبد لأبرهة, فبعث إليهم فيه بغذائه, وكان يأكل الخُصَى فلما أتى القوم بغذائه, قالوا: والله لئن أكلنا هذا لا تزال تسبّنا به العرب ما بقينا, فقام محمد بن خزاعي, فجاء أبرهة فقال: أيها الملك, إن هذا يوم عيد لنا, لا نأكل فيه إلا الجُنوبَ والأيدي, فقال له أبرهة: فسنبعث إليكم ما أحببتم, فإنما أكرمتكم بغذائي, لمنزلتكم عندي.
ثم إن أبرهة توّج محمد بن خُزَاعِي, وأمّره على مضر, أن يسير في الناس, يدعوهم إلى حجّ القُلّيس, كنيسته التي بناها, فسار محمد بن خِزاعي, حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة, وقد بلغ أهل تهامة أمره, وما جاء له, بعثوا إليه رجلاً من هُذَيل يقال له عُرْوة بن حياض الملاصي, فرماه بسهم فقتله وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس بن خزاعي, فهرب حين قُتل أخوه, فلحق بأبرهة فأخبره بقتله, فزاد ذلك أبرهة غضبا وحنقا, وحلف ليغزونّ بني كنانة, وليهدمنّ البيت.
ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت, أمر الحُبْشان فتهيأتْ وتجهّزتْ, وخرج معه بالفيل, وسمعت العرب بذلك, فأعظموه, وفُظِعوا به, ورأوا جهاده حقّا عليهم, حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة, بيت الله الحرام, فخرج رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم, يقال له ذو نَفْر, فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب, إلى حرب أبرهة, وجهاده عن بيت الله, وما يريد من هدمه وإخرابه, فأجابه من أجابه إلى ذلك, وعَرَض له, وقاتله, فهُزم وتفرّق أصحابه, وأُخِذَ له ذو نفر أسيرا فلما أراد قتله, قال ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني, فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي فتركه من القتل, وحبسه عنده في وثاق. وكان أبرهة رجلاً حليما.
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له, حتى إذا كان بأرض خثعم, عرض له نُفَيل بن حبيب الخثعميّ في قبيلَي خثعم: شَهران, وناهس, ومن معه من قبائل العرب, فقاتله فهزمه أبرهة, وأُخِذ له أسيرا, فأُتِي به فلما همّ بقتله, قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني, فإني دليلك بأرض العرب, وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم: شهران, وناهس, بالسمع والطاعة فأعفاه وخلّى سبيله, وخرج به معه, يدله على الطريق حتى إذا مرّ بالطائف, خرج إليه مسعود بن مُعَتّب في رجال ثقيف, فقال: أيها الملك, إنما نحن عبيدك, سامعون لك مطيعون, ليس لك عندنا خلاف, وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد يعنون اللاّت إنما تريد البيت الذي بمكة يعنون الكعبة ونحن نبعث معك من يدلك, فتجاوز عنهم, وبعثوا معهم أبا رِغال فخرج أبرهة ومعه أبو رِغال حتى أنزله المغمّس, فلما أنزله به مات أبو رِغال هناك, فَرَجمت العرب قبره, فهو القبر الذي ترجم الناس بالمغمّس.
ولما نزل أبرهة المغمّس, بعث رجلاً من الحبشة, يقال له الأسود بن مقصود, على خيل له حتى انتهى إلى مكة, فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم, وأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم, وهو يومئذٍ كبير قريش وسيّدها وهمّت قريش وكنانة وهُذَيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس بقتاله, ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به, فتركوا ذلك, وبعث أبرهة حُناطة الحميريّ إلى مكة, وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم, ثم قل له: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم, إنما جئت لهدم البيت, فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم, فإن لم يُرِد حربي فأتني به.
فلما دخل حناطة مكة, سأل عن سيد قريش وشريفها, فقيل: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قُصَيّ, فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة, فقال له عبد المطلب: واللّهِ ما نريد حربه, وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام, وبيت خليله إبراهيم عليه السلام أو كما قال فإن يمنعه فهو بيته وحَرَمه, وإن يُخْلِ بينه وبينه, فوالله ما عندنا له من دافع عنه, أو كما قال فقال له حناطة: فانطِلقْ إلى الملك, فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب, ومعه بعض بنيه, حتى أتى العسكر, فسأل عن ذي نَفْر, وكان له صديقا, فَدُلّ عليه, فجاءه وهو في محبسه, فقال: يا ذا نَفْر, هل عندك غَناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر, وكان له صديقا: وما غَنَاءُ رجل أسير في يدي ملك, ينتظر أن يقتله غدوّا أو عشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك, إلاّ أن أُنَيسا سائق الفيل لي صديق, فسأرسل إليه, فأوصيه بك, وأُعظم عليه حقك, وأسأله أن يستأذن لك على الملك, فتكلمه بما تريد, ويشفع لك عنده بخير, إن قدر على ذلك. قال: حسبي, فبعث ذو نَفْر إلى أُنيس, فجاء به, فقال: يا أُنيس إن عبد المطلب سيّد قريش, وصاحب عِير مكة, يُطعم الناس بالسهل, والوحوش في رؤوس الجبال, وقد أصاب الملكُ له مئتي بعير, فاستأذنْ له عليه, وانفعْه عنده بما استطعت, فقال: أفعل.
فكلّم أُنيس أبرهة, فقال: أيها الملك, هذا سيّد قريش ببابك, يستأذن عليك, وهو صاحب عِير مكة, يُطعم الناس بالسهل, والوحوش في رؤوس الجبال, فأْذَنْ له عليك, فليكلمك بحاجته, وأحسن إليه. قال: فأذِن له أبرهة, وكان عبد المطلب رجلاً عظيما وسيما جسيما فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه أن يجلس تحته, وكرِه أن تراه الحبشة يُجِلسُه معه على سرير مُلكه, فنزل أبرهة عن سريره, فجلس على بساطه, فأجلسه معه عليه إلى جنبه, ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له ذلك الترجمان, فقال له عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ عليّ مئتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك, قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم زَهِدت فيك حين كلّمتَني, أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك, وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك, قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه؟ قال له عبدالمطلب: إني أنا ربّ الإبل, وإن للبيت ربا سيمنعه, قال: ما كان ليُمَنع مني, قال: فأنت وذاك, اردد إليّ إبلي.
وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة, حين بعث إليه حناطة, يعمر بن نُفاثة بن عديّ بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة, وهو يومئذٍ سيّد بني كنانة, وخويلِد بن واثلة الهُذَليّ وهو يومئذٍ سيد هُذَيل, فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تِهامة, على أن يرجع عنهم, ولا يهدم البيت, فأبي عليهم, والله أعلم.
وكان أبرهة, قد ردّ على عبد المطلب الإبل التي أصاب له, فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش, فأخبرهم الخبر, وأمرهم بالخروج من مكة, والتحرّز في شَعَف الجبال والشعاب, تخوّفا عليهم من مَعَرّة الجيش ثم قام عبد المطلب, فأخذ بحلّقة الباب, باب الكعبة, وقام معه نفر من قريش يدعون الله, ويستنصرونه على أبرهة وجنده, فقال عبد المطلب, وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يا رَبّ لا أرْجُو لَهُمْ سِوَاكايا رَبّ فامْنَعْ مِنْهُمْ حِماكا
إنّ عَدُوّ البَيْتِ مَنْ عادَاكاامْنَعْهُمُ أنْ يُخَرّبُوا قُرَاكا
وقال أيضا:
لا هُمّ إنّ الْعَبْدَ يَمْنُعُ رَحْلَهُ فامْنَعْ حِلالكْ
لا يَغْلِبَنّ صَلِيبُهُمْومِحَالُهُمْ غَدْوا مِحَالكْ
فَلَئِنْ فَعَلْتَ فَرُبّمَاأوْلى فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ
وَلْئِنَ فَعَلْتَ فإنّهُأمْرٌ تُتِمّ بِهِ فَعالَكْ
وقال أيضا:
وكُنْتُ إذَا أتى باغٍ بِسَلْمٍنُرَجّي أن تَكُونَ لَنَا كَذَلِكْ
فَوَلّوْا لَمْ يَنالُوا غَيْرَ خِزْىٍوكانَ الْحَيْنُ يُهْلِكُهُمْ هُنالكْ
ولَمْ أسْمَعْ بأرْجَسَ منْ رِجالٍأرَادُوا الْعِزّ فانْتَهَكُوا حَرامَكْ
جَرّوا جُمُوعَ بِلادِهِمْوالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِيالَكْ
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة, وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال, فتحرّزوا فيها, ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة, وهيأ فيله, وَعبّأ جيشه, وكان اسم الفيل محمودا, وأبرهة مُجْمِعٌ لهدم البيت, ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجّهوا الفيل, أقبل نُفَيل بن حبيب الخثعميّ, حتى قام إلى جنبه, ثم أخذ بأذنه فقال: ابرك محمود, وارجع راشدا من حيث جئت, فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه, فَبرَك الفيلِ, وخرج نُفَيل بن حبيب يشتدّ حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى, وضربوا في رأسه بالطّبَرْزِين ليقوم, فأبى, فأدخلوا محَاجن لهم في مراقّه, فبزغوه بها ليقوم, فأبى, فوجّهوه راجعا إلى اليمن, فقام يُهَرْوِل, ووجّهوه إلى الشام, ففعل مثل ذلك, ووجّهوه إلى المشرق, ففعل مثل ذلك, ووجّهوه إلى مكة فبرك, وأرسل الله عليهم طيرا من البحر, أمثالَ الخطاطيف, مع كلّ طير ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره, وحجران في رجليه مثل الحِمّص والعَدَس, لا يصيب منهم أحدا إلاّ هلك, وليس كلّهم أصابت, وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا, ويسألون عن نُفَيل بن حبيب, ليدلهم على الطريق إلى اليمن, فقال نُفَيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أيْنَ المَفَرّ والإلَهُ الطّالِبْوالأشْرَمُ المَغْلُوبُ غَيْرُ الْغالِبْ
فخرجوا يتساقطون بكلّ طريق, ويهلكون على كلّ مَنْهل, فأصيب أبرهة في جسده, وخرجوا به معهم, فسقطت أنامله أنملة أنملة, كلما سقطت أنملة أتبعتها مِدّة تَمُثّ قيحا ودما, حتى قَدِموا به صنعاء, وهو مثل فرخ الطير, فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
29345ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن يعقوب بن عتبة بن المُغيرة بن الأخنس, أنه حدّث, أن أوّل ما رُؤيت الحَصْبة والجُدَريّ بأرض العرب ذلك العام, وأنه أوّل ما رؤي بها مُرار الشجر: الحرملُ والحنظلُ والعُشَرُ ذلك العام.
29346ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ألمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحَابِ الْفِيلِ أقبل أبرهة الأشرم من الحبشة يوما ومن معه من عداد أهل اليمن, إلى بيت الله ليهدمه من أجل بِيعة لهم أصابها العرب بأرض اليمن, فأقبلوا بفيلهم, حتى إذا كانوا بالصّفَاح برك فكانوا إذا وجّهوه إلى بيت الله ألقى بجرانه الأرض, وإذا وجّهوه إلى بلدهم انطلق وله هَرْولة, حتى إذا كان بنخلةَ اليمانية بعث الله عليهم طيرا بيضا أبابيل. والأبابيل: الكثيرة, مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه, وحجر في منقاره, فجعلت ترميهم بها حتى جعلهم الله عزّ وجلّ كعصف مأكول قال: فنجا أبو يكسوم وهو أبرهة, فجعل كلما قدم أرضا تساقط بعض لحمه, حتى أتى قومه, فأخبرهم الخبر ثم هلك.
وقوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكولٍ يعني تعالى ذكره: فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدوابّ فراثته, فيبس وتفرّقت أجزاؤه شبّه تقطّع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم, وتفرّق آراب أبدانهم بها, بتفرّق أجزاء الروث, الذي حدث عن أكل الزرع.
وقد كان بعضهم يقول: العَصْف: هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة من خارج, كهيئة الغلاف لها. ذكر من قال: عُنِي بذلك ورق الزرع:
29347ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: كَعَصْفٍ مأْكُولٍ قال: ورق الحنطة.
29348ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة كَعَصْفٍ مأْكُولٍ قال: هو التّبن.
29349ـ وحُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: كَعَصْفٍ مأْكُولٍ: كزرع مأكول.
29350ـ حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ, قال: حدثنا زريق بن مرزوق, قال: حدثنا هبيرة, عن سَلَمة بن نُبَيط, عن الضحاك, في قوله كَعَصْفٍ مأْكُولٍ قال: هو الهَبُور بالنبطية, وفي رواية: المقهور.
29351ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ قال: ورق الزرع وورق البقل, إذا أكلته البهائم فراثته, فصار رَوْثا. ذكر من قال: عُني به قشر الحبّ:
29352ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس كَعَصْفٍ مأْكُولٍ قال: البُرّ يؤكل ويُلْقى عَصْفُه الريح. والعَصْف: الذي يكون فوق البرّ: هو لحاء البرّ.
وقال آخرون في ذلك بما:
29353ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي سنان, عن حبيب بن أبي ثابت: كَعَصْفٍ مأْكُولٍ قال: كطعام مطعوم.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الفيل