تفسير الطبري تفسير الصفحة 456 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 456
457
455
 الآية : 43-47
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنّا وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ }.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ وقد ذكرنا اختلافهم فـي ذلك والصواب من القول عندنا فـيه فـي سورة الأنبـياء بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. فتأويـل الكلام: فـاغتسل وشرب, ففرّجنا عنه ما كان فـيه من البلاء, ووهبنا له أهله, من زوجة وولد وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا له ورأفة وَذِكْرَى يقول: وتذكيرا لأولـي العقول, لـيعتبروا بها فـيتعظوا. وقد:
23017ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي نافع بن يزيد, عن عقـيـل, عن ابن شهاب, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ نَبِـيّ اللّهِ أيّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤُهُ ثَمانِـيَ عَشْرَةَ سَنَةً, فَرَفَضَهُ القَرِيبُ والبَعِيدُ, إلاّ رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ, كانا يَغْدُوَانِ إلَـيْهِ وَيَرُوحانِ, فَقالَ أحَدُهُما لِصَاحِبِه: تَعْلَـمُ وَاللّهِ لَقَدْ أذْنَبَ أيّوبُ ذَنْبـا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العالَـمِينَ, قال لَهُ صَاحِبُهُ: وَما ذَاكَ؟ قال: من ثَمانِـي عَشْرَةَ سَنَةً لَـمْ يَرْحَمْهُ اللّهُ فـيَكْشِفَ ما بِهِ فَلَـمّا رَاحا إلَـيْهِ لَـمْ يَصْبِر الرّجُلُ حتـى ذَكَرَ ذلكَ لَهُ, فَقالَ أيّوبُ: لا أدْرِي ما تَقُولُ, غَيرَ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ أنّـي كُنْتُ أمُرّ عَلـى الرّجُلَـيْنِ يَتَنازَعانِ فَـيَذْكُرانِ اللّهَ, فأرْجِعُ إلـى بَـيْتِـي فَأُكَفّرُ عَنْهُما كَراهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ اللّهُ إلاّ فِـي حَقّ قال: وكانَ يَخْرُجُ إلـى حاجَتِهِ, فإذَا قَضَاها أمْسَكَتِ امْرأتُهُ بِـيَدِهِ حتـى يبْلُغَ فَلَـما كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأَ عَلَـيْها, وَأَوحِيَ إلـى أيّوبَ فِـي مَكانِهِ: أنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بـارِدٌ وَشَرابٌ, فـاسْتَبْطأَتْهُ, فَتَلَقّتْهُ تَنْظُرُ, فأقْبَلَ عَلَـيْها قَدْ أذْهَبَ اللّهُ ما بِهِ مِنَ البَلاءِ, وَهُوَ عَلـى أحْسَنِ ما كانَ فَلَـمّا رَأتْهُ قَالَتْ: أيّ بـارَكَ اللّهُ فِـيكَ, هَلْ رأيْتَ نَبِـيّ اللّهِ هَذَا الـمُبْتَلـي, فَوَاللّهِ علـى ذلكَ ما رأيْتُ أحَدا أشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إذْ كانَ صَحِيحا؟ قالَ: فإنّـي أنا هُوَ قال: وكانَ لَهُ أنْدَرَانِ: أنْذَرٌ للْقَمْـحِ, وأنْدَرٌ للشّعِيرِ, فَبَعَثَ اللّهُ سَحَابَتَـيْنِ, فَلَـمّا كانَتْ إحْدَاهُما علـى أنْدَرِ القَمْـحِ, أفْرَغَتْ فِـيهِ الذّهَبَ حتـى فـاضَ, وأفرَغَتِ الأُخْرَى فـي أنْدَرِ الشّعِيرِ الوَرِق حتـى فـاضَ».
23018ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال: قال الـحسن وقتادة: فأحياهم الله بأعيانهم, وزادهم مثلهم.
23019ـ حدثنـي مـحمد بن عوف, قال: حدثنا أبو الـمغيرة, قال: حدثنا صفوان, قال: حدثنا عبد الرحمن بن جُبَـير, قال: لـما ابتُلِـي نبـيْ الله أيوب صلى الله عليه وسلم بـماله وولده وجسده, وطُرح فـي مَزْبلة, جعلت امرأته تـخرج تكسب علـيه ما تطعمه, فحسده الشيطان علـى ذلك, وكان يأتـي أصحاب الـخبز والشويّ الذين كانوا يتصدّقون علـيها, فـيقول: اطردوا هذه الـمرأة التـي تغشاكم, فإنها تعالـج صاحبها وتلـمسه بـيدها, فـالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتـيكم وتغشاكم علـى ذلك وكان يـلقاها إذا خرجت كالـمـحزون لـمَا لقـي أيوب, فـيقول: لَـجّ صاحبك, فأبى إلا ما أتـى, فوالله لو تكلـم بكلـمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ, ولرجع إلـيه ماله وولده, فتـجيء, فتـخبر أيوب, فـيقول لها: لقـيك عدوّ الله فلقنك هذا الكلام ويـلَك, إنـما مثلك كمثل الـمرأة الزانـية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخـلته, وإن لـم يأتها بشيء طردته, وأغلقت بـابها عنه لـما أعطانا الله الـمال والولد آمنا به, وإذا قبض الذي له منا نكفر به, ونبدّل غيره إن أقامنـي الله من مرضي هذا لأجلدنّك مئةً, قال: فلذلك قال الله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا فـاضْرِبْ بِهِ وَلا تَـحْنَثْ.
وقوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضغْثا يقول: وقلنا لأيوب: خذ بـيدك ضغثا, وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرّطْبة, وكملء الكفّ من الشجر أو الـحشيش والشماريخ ونـحو ذلك مـما قام علـى ساق ومنه قول عوف بن الـخَرِع:
وأسْفَلَ مِنّـي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطْتُها وألْقَـيْتُ ضِغْثا مِن خَلاً متَطَيّبِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23020ـ حدثنـي علـيّ, قال: ثنـي عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية عن علـيّ عن ابن عبـاس, قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا يقول: حُزْمة.
23021ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا فـاضْرِبْ بِهِ وَلا تَـحْنَثْ قال: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف علـيه فـيضرب به.
23022ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, فـي قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضغْثا قال: عيدانا رطبة.
23023ـ حدثنا أبو هشام الرّفـاعيّ, قال: حدثنا يحيى, عن إسماعيـل بن إبراهيـم بن الـمهاجر, عن أبـيه, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا قال: هو الأَثْل.
23024ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَخُذْ بِـيَدكَ ضِغْثا... الاَية, قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر, وأرادها إبلـيس علـى شيء, فقال: لو تكلـمت بكذا وكذا, وإنـما حملها علـيها الـجزع, فحلف نبـيّ الله: لئِن اللّهُ شفـاه لـيجلِدّنها مئة جلدة قال: فأُمِر بغصن فـيه تسعة وتسعون قضيبـا, والأصل تكملة الـمِئَة, فضربها ضَربة واحدة, فأبرّ نبـيّ الله, وخَفّف الله عن أمَتِهِ, والله رحيـم.
23025ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا يعنـي: ضِغْثا من الشجر الرّطْب, كان حلف علـى يـمين, فأخذ من الشجر عدد ما حلف علـيه, فضرب به ضَرْبة واحدة, فبرّت يـمينه, وهو الـيوم فـي الناس يـمين أيوب, من أخذ بها فهو حسن.
23026ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا فـاضْرِبْ بِهِ وَلا تَـحْنَثْ قال: ضِغْثا واحدا من الكلأ فـيه أكثر من مِئة عود, فضرب به ضربة واحدة, فذلك مِئَة ضربة.
23027ـ حدثنـي مـحمد بن عوف, قال: حدثنا أبو الـمغيرة, قال: حدثنا صفوان, قال: حدثنا عبد الرحمن بن جُبَـير وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغثا فـاضْرِبْ بِهِ يقول: فـاضرب زوجتك بـالضّغْث, لتَبرّ فـي يـمينك التـي حلفت بها علـيها أن تضربها وَلا تَـحْنَثْ يقول: ولا تـحنَثْ فـي يـمينك.
وقوله: إنّا وَجَدْناهُ صَابِرا نِعْمَ العَبْدُ يقول: إنا وجدنا أيوب صابرا علـى البلاء, لا يحمله البلاء علـى الـخروج عن طاعة الله, والدخول فـي معصيته نَعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ يقول: إنه علـى طاعة الله مقبل, وإلـى رضاه رَجّاع.

الآية : 48-49
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلّ مّنَ الأخْيَارِ * هَـَذَا ذِكْرٌ وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا مـحمد إسماعيـل والـيسع وذا الكِفل, وما أبلْوا فـي طاعة الله, فتأسّ بهم, واسلك منهاجَهم فـي الصبر علـى ما نالك فـي الله, والنفـاذ لبلاغ رسالته. وقد بـيّنا قبل من أخبـار إسماعيـل والـيسع وذا الكفل فـيـما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. والكِفْل فـي كلامِ العرب: الـحظّ والـجَدّ.
وقوله: هَذَا ذِكْرٌ يقول تعالـى ذكره: هذا القرآن الذي أنزلناه إلـيك يا مـحمد ذكر لك ولقومك, ذكرناك وإياهم به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23043ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ هَذَا ذِكْرٌ قال: القرآن.
وقوله: وَإنّ للْـمُتّقِـينَ لَـحُسْنَ مآبٍ يقول: وإن للـمتقـين الذين اتّقَوْا الله فخافوه بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه, لـحسنَ مَرْجع يرجعون إلـيه فـي الاَخرة, ومَصِير يصيرون إلـيه. ثم أخبر تعالـى ذكره عن ذلك الذي وعده من حُسن الـمآب ما هو, فقال: جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ.
23044ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قوله: وَإنّ للْـمُتّقِـينَ لَـحُسْنَ مآبٍ قال: لـحسن منقلب.
الآية : 50-51
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {جَنّاتِ عَدْنٍ مّفَتّحَةً لّهُمُ الأبْوَابُ * مُتّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ }.
قوله تعالـى ذكره: جَنّاتِ عَدْنٍ: بـيان عن حسن الـمآب, وترجمة عنه, ومعناه: بساتـينُ إقامة. وقد بـيّنا معنى ذلك بشواهده, وذكرنا ما فـيه من الاختلاف فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقد:
23045ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: جَنّاتِ عَدْنٍ قال: سأل عمر كعبـا ما عَدَن؟ قال: يا أمير الـمؤمنـين, قصور فـي الـجنة من ذهب يسكنها النبـيون والصدّيقون والشهداء وأئمةُ العدل.
وقوله: مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ يعنـي: مفتـحة لهم أبوابها وأدخـلت الألف واللام فـي الأبواب بدلاً من الإضافة, كما قـيـل: فإنّ الـجَنّةَ هِيَ الـمَأْوَى بـمعنى: هي مَأْواه وكما قال الشاعر:
ما وَلَدْتكُمْ حَيّةُ ابْنَةُ مالِكٍشفـاحا وَما كانَتْ أحادِيثَ كاذِبِ
وَلَكِنْ نَرَى أقْدَامَنا فِـي نِعالِكُمْوآنُفَنا بـينَ اللّـحَي والـحَوَاجِبِ
بـمعنى: بـين الـحاكم وحواجبكم ولو كانت الأبواب جاءت بـالنصب لـم يكن لـحنا, وكان نصبه علـى توجيه الـمفتـحة فـي اللفظ إلـى جنات, وإن كان فـي الـمعنى للأبواب, وكان كقول الشاعر:
وَما قَوْمي بثعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍوَلا بِفَزَارَةَ الشّعْرَ الرّقابـا
ثم نوّنت مفتـحة, ونصبت الأبواب.
فإن قال لنا قائل: وما فـي قوله: مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ من فـائدة خبر حتـى ذكر ذلك؟ قـيـل: فإن الفـائدة فـي ذلك إخبـار الله تعالـى عنها أن أبوابها تفتـح لهم بغير فتـح سكانها إياها, بـمعاناة بـيدٍ ولا جارحة, ولكن بـالأمر فـيـما ذُكر, كما:
23046ـ حدثنا أحمد بن الولـيد الرملـي, قال: حدثنا ابن نفـيـل, قال: حدثنا ابن دعيج, عن الـحسن, فـي قوله: مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ قال: أبواب تكلـم, فتكلـم: انفتـحي, انغلقـي.
وقوله: مُتّكِئِينَ فِـيها يَدْعُونَ فِـيها بِفـاكِهَةٍ كَثِـيرَةٍ وَشَراب يقول: متكئين فـي جنات عدن, علـى سُرر يدعون فـيها بفـاكهة, يعنـي بثمار من ثمار الـجنة كثـيرة, وشراب من شرابها.
الآية : 52-54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ * هَـَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنّ هَـَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نّفَادٍ }.
يقول تعالـى ذكره: عند هؤلاء الـمتقـين الذين أكرمهم الله بـما وصف فـي هذه الاَية من إسكانهم جنات عدن قاصِراتُ الطّرْفِ يعنـي: نساء قصرت أطرافهنّ علـى أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم, ولا يـمددن أعينهن إلـى سواهم, كما:
23047ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَعِنْدَهُمْ قاصِرَاتُ الطّرْفِ قال: قصرن طرفهنّ علـى أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم.
23048ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ قاصِرات الطّرْفِ قال: قصَرن أبصارهنّ وقلوبهنّ وأسماعهنّ علـى أزواجهنّ, فلا يردن غيرهم.
وقوله: أتْرَابٌ يعنـي: أسنان واحدة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف بـين أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23049ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قاصِرَاتٌ الطّرْفِ أتْرابٌ قال: أمثال.
23050ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أتْرَابٌ سن واحدة.
23051ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ أتْرَابٌ قال: مستويات. قال: وقال بعضهم: متواخيات لا يتبـاغضن, ولا يتعادين, ولا يتغايرن, ولا يتـحاسدن.
وقوله: هَذَا ما تُوعَدُون لِـيوْمِ الـحِسابِ يقول تعالـى ذكره: هذا الذي يعدكم الله فـي الدنـيا أيها الـمؤمنون به من الكرامة لـمن أدخـله الله الـجنة منكم فـي الاَخرة, كما:
23052ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ هَذَا ما تُوعَدُونَ لِـيَوْم الـحِسابِ قال: هو فـي الدنـيا لـيوم القـيامة.
وقوله: إنّ هَذَا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفـادٍ يقول تعالـى ذكره: إن هذا الذي أعطينا هؤلاء الـمتقـين فـي جنّات عدن من الفـاكهة الكثـيرة والشراب, والقاصرات الطرف, ومكنّاهم فـيها من الوصول إلـى اللذّات وما اشتهته فـيها أنفسهم لرزقنا, رزقناهم فـيها كرامة منا لهم ما لَهُ مِنْ نَفـادٍ يقول: لـيس له عنهم انقطاع ولا له فناء, وذلك أنهم كلـما أخذوا ثمرة من ثمار شجرة من أشجارها, فأكلوها, عادت مكانها أخرى مثلها, فذلك لهم دائم أبدا, لا ينقطع انقطاع ما كان أهل الدنـيا أوتوه فـي الدنـيا, فـانقطع بـالفناء, ونَفِد بـالإنفـاد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23053ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ إنّ هَذَا لَرزْقُنا مالَهُ مِنْ نَفـادٍ قال: رزق الـجنة, كلـما أُخذ منه شيء عاد مثله مكانه, ورزق الدنـيا له نفـاد.
23054ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ما لَهُ مِنْ نَفـادٍ: أي ما له انقطاع.

الآية : 55-60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَـَذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ * جَهَنّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَـَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَـَذَا فَوْجٌ مّقْتَحِمٌ مّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنّهُمْ صَالُو النّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: هَذَا: الذي وصفت لهؤلاء الـمتقـين: ثم استأنف جلّ وعزّ الـخبر عن الكافرين به الذين طَغَوا علـيه وبَغَوا, فقال: وإنّ للطّاغِينَ وهم الذين تـمّردوا علـى ربهم, فعَصَوا أمره مع إحسانه إلـيهم لَشَرّ مآبٍ يقول: لشرّ مرجع ومصير يصيرون إلـيه فـي الاَخرة بعد خروجهم من الدنـيا, كما:
23055ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَإنّ للطّاغِينَ لَشرّ مآبٍ قال: لشرّ مُنْقَلَبٍ.
ثم بـين تعالـى ذكره: ما ذلك الذي إلـيه ينقلبون ويصيرون فـي الاَخرة, فقال: جَهَنّـمَ يَصْلَوْنَها فترجم عن جهنـم بقوله: لَشَرّ مآبٍ ومعنى الكلام: إن للكافرين لشرّ مَصِير يصيرون إلـيه يوم القـيامة, لأن مصيرهم إلـى جهنـم, وإلـيها منقلبهم بعد وفـاتهم فَبِئْسَ الـمِهادُ يقول تعالـى ذكره: فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنـم.
وقوله: هَذَا فَلْـيَذُوقُوهُ حَمِيـمٌ وَغَسّاقٌ يقول تعالـى ذكره: هذا حميـم, وهو الذي قد أُغلـي حتـى انتهى حرّه, وغساق فلـيذوقوه فـالـحميـم مرفوع بهذا, وقوله: فَلْـيَذُوقُوهُ معناه التأخير, لأن معنى الكلام ما ذكرت, وهو: هذا حميـم وغسّاق فلـيذوقوه. وقد يتـجه إلـى أن يكون هذا مكتفـيا بقوله فلـيذوقوه ثم يُبْتدأ فـيقال: حميـمٌ وغَسّاق, بـمعنى: منه حميـم ومنه غَسّاق كما قال الشاعر:
حتـى إذا ما أضَاءَ الصّبْحُ فـي غَلَسٍوَغُودِرَ البقْلُ مَلْويّ وَمَـحْصُودُ
وإذا وُجّه إلـى هذا الـمعنى جاز فـي هذا النصب والرفع. النصب: علـى أن يُضْمر قبلها لها ناصب, كم قال الشاعر:
زِيادَتَنا نُعْمانُ لا تَـحْرِمَنّناتَقِ اللّهَ فِـينا والكِتابَ الّذي تَتْلُو
والرفع بـالهاء فـي قوله: فَلْـيَذُوقُوهُ كما يقال: اللـيـلَ فبـادروه, واللـيـلُ فبـادروه.
23056ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين, قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ هَذَا فَلْـيَذوقُوهُ حَمِيـمٌ وَغَسّاقٌ قال: الـحميـم: الذي قد انتهى حَرّه.
23057ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الـحميـم دموع أعينهم, تـجمع فـي حياض النار فـيسقونه.
وقوله: وَغَسّاقٌ اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين والشام بـالتـخفـيف: «وَغَسَاقٌ» وقالوا: هو اسم موضوع. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: وَغَسّاقٌ مشدّدة, ووجهوه إلـى أنه صفة من قولهم: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا: إذا سال, وقالوا: إنـما معناه: أنهم يُسْقَون الـحميـم, وما يسيـل من صديدهم.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, وإن كان التشديد فـي السّين أتـمّ عندنا فـي ذلك, لأن الـمعروف ذلك فـي الكلام, وإن كان الاَخر غير مدفوعة صحته.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: هو ما يَسيـل من جلودهم من الصديد والدم. ذكر من قال ذلك:
23058ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة هَذَا فَلْـيَذُوقُوهُ حَمِيـمٌ وَغَسّاقٌ قال: كنا نـحدّث أن الغَسّاق: ما يسيـل من بـين جلده ولـحمه.
23059ـ حدثنا مـحمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: الغسّاق: الذي يسيـل من أعينهم من دموعهم, يُسْقونه مع الـحميـم.
23060ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم, قال: الغسّاق: ما يسيـل من سُرْمهم, وما يسقط من جلودهم.
23061ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد الغسّاق: الصديد الذي يجمع من جلودهم مـما تصهَرهم النار فـي حياض يجتـمع فـيها فـيُسقونه.
23062ـ حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهميّ, قال: ثنـي أبـي, قال: حدثنا ابن لَهيعة, قال: ثنـي أبو قبـيـل أنه سمع أبـا هبـيرة الزيادي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: أيّ شيء الغسّاق؟ قالوا: الله أعلـم, فقال عبد الله بن عمرو: هو القَـيْح الغلـيظ, لو أن قطرة منه تُهرَاق فـي الـمغرب لأنتنت أهل الـمشرق, ولو تُهَراق فـي الـمشرق لأنتنت أهل الـمغرب.
23063ـ قال يحيى بن عثمان, قال أبـي: حدثنا ابن لَهِيعة مرّة أخرى, فقال: حدثنا أبو قبـيـل, عن عبد الله بن هبـيرة, ولـم يذكر لنا أبـا هبـيرة.
23064ـ حدثنا ابن عوف, قال: حدثنا أبو الـمغيرة, قال: حدثنا صفوان, قال: حدثنا أبو يحيى عطية الكلاعيّ, أن كعبـا كان يقول: هل تدرون ما غَسّاق؟ قالوا: لا والله, قال: عين فـي جهنـم يسيـل إلـيها حُمَةُ كلّ ذات حُمَةٍ من حية أو عقرب أو غيرها, فـيستنقع فـيؤتـي بـالاَدمي, فـيغْمَس فـيها غمسة واحدة, فـيخرج وقد سقط جلده ولـحمه عن العظام. حتـى يتعلّق جلده فـي كعبـيه وعقبـيه, وينـجَرّ لـحمه كجرّ الرجل ثوبه.
وقال آخرون: هو البـارد الذي لا يُستطاع من برده. ذكر من قال ذلك:
23065ـ حُدثت عن يحيى بن أبـي زائدة, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد وغسّاق قال: بـارد لا يُسْتطاع, أو قال: برد لا يُسْتطاع.
23066ـ حدثنـي علـيّ بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمـحاربـيّ, عن جُوَيبر, عن الضحاك هَذَا فَلْـيَذُوقُوهُ حَمِيـمٌ وغَسّاقٌ قال: يقال: الغسّاق: أبرد البرد, ويقول آخرون: لا بل هو أنتن النَتْن.
وقال آخرون: بل هو الـمُنْتِن. ذكر من قال ذلك:
23067ـ حُدثت عن الـمسيب, عن إبراهيـم النكري, عن صالـح بن حيان, عن أبـيه, عن عبد الله بن بُرَيدة, قال: الغسّاق: الـمنتن, وهو بـالطّخارية.
23068ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ثنـي عمرو بن الـحارث, عن درّاج, عن أبـي الهيثم, عن أبـي سعيد الـخُدريّ, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أنّ دَلْوا مِنْ غَسّاقٍ يُهَراقُ فِـي الدّنـيْا لأَنُتَنَ أهْلَ الدّنْـيا».
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: هو ما يسيـل من صديدهم, لأن ذلك هو الأغلب من معنى الْغُسُوق, وإن كان للاَخر وجه صحيح.
وقوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والكوفة وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ علـى التوحيد, بـمعنى: هذا حميـم وغساق فلـيذوقوه, وعذاب آخر من نـحو الـحميـم ألوان وأنواع, كما يقال: لك عذاب من فلان: ضروب وأنواع وقد يحتـمل أن يكون مرادا بـالأزواج الـخبر عن الـحميـم والغسّاق, وآخر من شكله, وذلك ثلاثة, فقـيـل أزواج, يراد أن ينعت بـالأزواج تلك الأشياء الثلاثة. وقرأ ذلك بعضُ الـمكيـين وبعض البصريـين: «وأُخَرُ» علـى الـجماع, وكأن من قرأ ذلك كذلك كان عنده لا يصلـح أن يكون الأزواج وهي جمع نعتا لواحد, فلذلك جمع أخَر, لتكون الأزواج نَعْتا لها والعرب لا تـمنع أن ينعَت الاسم إذا كان فعلاً بـالكثـير والقلـيـل والاثنـين كما بـيّنا, فتقول: عذاب فلان أنواع, ونوعان مختلفـان.
وأعجب القراءتـين إلـيّ أن أقرأ بها: وآخَرُ علـى التوحيد, وإن كانت الأخرى صحيحة لاستفـاضة القراءة بها فـي قرّاء الأمصار وإنـما اخترنا التوحيد لأنه أصحّ مخرجا فـي العربـية, وأنه فـي التفسير بـمعنى التوحيد. وقـيـل إنه الزّمهرير. ذكر من قال ذلك:
23069ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن السديّ, عن مُرّة, عن عبد الله وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال الزمهرير.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن السديّ, عن مرة, عن عبد الله, بـمثله.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا معاوية, عن سفـيان, عن السديّ, عمن أخبره عن عبد الله بـمثله, إلا أنه قال: عذاب الزمهرير.
حدثنا مـحمد قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, عن مرّة الهمدانـي, عن عبد الله بن مسعود, قال: هو الزمهرير.
23070ـ حُدثت عن يحيى بن أبـي زائدة, عن مبـارك بن فضالة, عن الـحسن, قال: ذكر الله العذاب, فذكر السلاسل والأغلال, وما يكون فـي الدنـيا, ثم قال: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال: وآخر لـم ير فـي الدنـيا.
وأما قوله: مِنْ شَكْلِهِ فإن معناه: من ضربه, ونـحوه يقول الرجل للرجل: ما أنت من شكلـي, بـمعنى: ما أنت من ضربـي بفتـح الشين. وأما الشّكْل فإنه من الـمرأة ما عَلّقَتْ مـما تتـحسن به, وهو الدّلّ أيضا منها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23071ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ يقول: من نـحوه.
23072ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ من نـحوه.
23073ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال: من كلّ شَكْلِ ذلك العذاب الذي سمّى الله, أزواج لـم يسمها الله, قال: والشّكل: الشبـيه.
وقوله: أزْوَاجٌ يعنـي: ألوان وأنواع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23074ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن, فـي قوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال: ألوان من العذاب.
23075ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أزْوَاجٌ زوج زوج من العذاب.
23076ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أزْوَاجٌ قال: أزواج من العذاب فـي النار.
وقوله: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَـحِمٌ مَعَكُمْ يعنـي تعالـى ذكره بقوله: هَذَا فَوْجٌ هذا فرقة وجماعة مقتـحمة معكم أيها الطاغون النار, وذلك دخول أمة من الأمـم الكافرة بعد أمة لا مرحبـا بهم, وهذا خبر من الله عن قـيـل الطاغين الذين كانوا قد دخـلوا النار قبل هذا الفوج الـمقتـحِم للفوج الـمقتـحَم فـيها علـيهم, لا مرحبـا بهم, ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد, كما قـيـل: يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فـاتصل قول فرعون بقول مَلئه, وهذا كما قال تعالـى ذكره مخبرا عن أهل النار: كُلّـما دَخَـلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها.
ويعنـي بقولهم: لا مَرْحَبـا بِهِمْ لا اتّسعت بهم مداخـلُهم, كما قال أبو الأسود:
لا مَرْحَبٌ وَاديكَ غيرُ مُضَيّقِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
23077ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَـحِمٌ مَعَكُمْ فـي النار لا مَرْحَبـا بِهِمْ إنّهُمْ صَالُوا النّارِ قالُوا بَلْ أنْتُـمْ لا مَرْحَبـا بِكُمْ... حتـى بلغ: فَبِئْسَ القَرَارُ قال: هؤلاء التبّـاع يقولون للرؤوس.
23078ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَـحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبـا بِهِمْ قال: الفوج: القوم الذين يدخـلون فوجا بعد فوج, وقرأ: كُلّـما دَخَـلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها التـي كانت قبلها. وقوله: إنّهُمْ صَالُوا النّارِ يقول: إنهم واردو النار وداخـلوها. قالُوا بَلْ أنْتُـمْ لا مَرْحَبـا بِكُمْ يقول: قال الفوج الواردون جهنـم علـى الطاغين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم لهم: بل أنتـم أيها القوم لا مرحبـا بكم: أي لا اتسعت بكم أما كنكم, أنْتُـمْ قَدّمْتُـمُوهُ لَنا يعنون: أنتـم قدمتـم لنا سُكنى هذا الـمكان, وصلّـي النار بإضلالكم إيانا, ودعائكم لنا إلـى الكفر بـالله, وتكذيب رُسله, حتـى ضللنا بـاتبـاعكم, فـاستوجبنا سكنى جهنـم الـيوم, فذلك تقديـمهم لهم ما قدموا فـي الدنـيا من عذاب الله لهم فـي الاَخرة فَبِئْسَ القَرارُ يقول: فبئس الـمكان يُسْتَقرّ فـيه جهنـم.

الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ رَبّنَا مَن قَدّمَ لَنَا هَـَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النّارِ }.
وهذا أيضا قول الفوج الـمقتـحم علـى الطاغين, وهم كانوا أتبـاع الطاغين فـي الدنـيا, يقول جلّ ثناؤه: وقال الأتبـاع: رَبّنا مَنْ قَدّمَ لَنا هَذَا يعنون: من قدّم لهم فـي الدنـيا بدعائهم إلـى العمل الذي يوجب لهم النار التـي ورودها, وسُكنى الـمنزل الذي سكنوه منها. ويعنون بقولهم هَذَا: العذاب الذي وردناه فَزِدْهُ عَذَابـا ضِعْفـا فـي النّارِ يقولون: فأضعف له العذاب فـي النار علـى العذاب الذي هو فـيه فـيها, وهذا أيضا من دعاء الأتبـاع للـمتبوعين