تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 50 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 50

049

هي مدنية، قال القرطبي بالإجماع، ومما يدل على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزل في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة. وقد أخرج البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة آل عمران بالمدينة. وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما هو مشترك بينها وبين هذه السورة من الأحاديث الدالة على فضلهما، وكذلك تقدم ما ورد في السبع الطوال. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس". وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن عمر بن الخطاب قال: من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء. وأخرج الديلمي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود: من قرأ آل عمران فهو غني. وأخرج الدارمي وعبد بن حميد والبيهقي عنه قال: نعم كنز الصعلوك آل عمران يقوم بها الرجل من آخر الليل. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عاطف قال: اسم آل عمران في التوراة طيبة. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير قال: قرأ رجل البقرة وآل عمران، فقال كعب: قد قرأ السورتين إن فيهما الاسم الذي إذا دعي به أجاب. قرأ الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرواسي " الم * الله " بقطع ألف الوصل على تقدير الوقف على 1- "الم" كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة مع وصلهم. قال الأخفش: ويجوز " الم * الله " بكسر الهمزة لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ ولا تقوله العرب لثقله. وقد ذكر سيبويه في الكتاب أن فواتح السور التي لم تكن موازنة لمفرد طريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف، سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء ساكنة الأعجاز على الوقف، سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف، فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها ثم يبدأ بما بعدها كما فعله الحسن ومن معه في قراءتهم المحكية سابقاً. وأما فتح الميم على القراءة المشهورة فوجهه ما روي عن سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين. وقال الكسائي: حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل، فحذفت الألف وحركت الميم بحركة الألف، وكذا قال الفراء. وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فلا محل لها من الإعراب، وإن جعلت أسماء للسورة فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر أو اقرأ أو نحوهما، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما يغني عن الإعادة.
وقوله: 2- "الله لا إله إلا هو" مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة: أي هو المستحق للعبودية. والحي القيوم: خبران آخران للإسم الشريف أو خبران لمبتدأ محذوف: أي هو الحي القيوم، وقيل: إنهما صفتان للمبتدإ الأول أو بدلان منه أو من الخبر، وقد تقدم تفسير الحي والقيوم. وقرأ جماعة من الصحابة القيام عمر وأبي بن كعب وابن مسعود.
قوله: 3- "نزل عليك الكتاب" أي القرآن وقدم الظرف على المفعول به للاعتناء بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم، وهي إما جملة مستأنفة أو خبر آخر للمبتدإ الأول. قوله: "بالحق" أي بالصدق- وقيل: بالحجة الغالبة وهو في محل نصب على الحال. وقوله: "مصدقاً" حال آخر من الكتاب مؤكدة، لأنه لا يكون إلا مصدقاً، فلا تكون الحال منتقلة أصلاً، وبهذا قال الجمهور، وجوز بعضهم الانتقال على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره. وقوله: "لما بين يديه" أي من الكتب المنزلة، وهو متعلق بقوله: مصدقاً، واللام للتقوية. قوله: "وأنزل التوراة والإنجيل" هذه الجملة في حكم البيان لقوله: لما بين يديه. وإنما قال هنا أنزل وفيما تقدم نزل: لأن القرآن نزل منجماً، والكتابان نزلا دفعة واحدة، ولم يذكر في الكتابين من ينزلا عليه، وذكر فيما تقدم أن الكتاب نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القصد هنا ليس إلا إلى ذكر الكتابين لا ذكر من نزلا عليه.
قوله: 4- "من قبل" أي أنزل التوراة والإنجيل من قبل تنزيل الكتاب. وقوله: "هدى للناس" إما حال من الكتابين أو علة للإنزال. والمراد بالناس أهل الكتابين، أو ما هو أعم، لأن هذه الأمة متعبدة لما لم ينسخ من الشرائع. قال ابن فورك: هدى للناس المتقين، كما قال في البقرة هدى للمتقين، قوله: "وأنزل الفرقان" أي: الفارق بين الحق والباطل وهو القرآن، وكرر ذكره تشريفاً له مع ما يشتمل عليه هذا الذكر الآخر من الوصف له بأنه يفرق بين الحق والباطل، وذكر التنزيل أولاً والإنزال ثانياً لكونه جامعاً بين الوصفين، فإنه أنزل إلى سماء الدنيا جملة ثم نزل منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً منجماً على حسب الحوادث كما سبق. وقيل: أراد بالفرقان جميع الكتب المنزلة من الله تعالى على رسله، وقيل: أراد الزبور لاشتماله على المواعظ الحسنة، وقوله: "إن الذين كفروا بآيات الله" أي: بما يصدق عليه أنه آية من الكتب المنزلة وغيرها، أو بما في الكتب المنزلة المذكورة على وضع آيات الله موضع الضمير العائد إليها، وفيه بيان الأمر الذي استحقوا به الكفر "لهم" بسبب هذا الكفر "عذاب شديد" أي عظيم "والله عزيز" لا يغالبه مغالب "ذو انتقام" عظيم، والنقمة السطوة، يقال انتقم منه: إذا عاقبه بسبب ذنب قد تقدم منه.
قوله: 5- "إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء" هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه وإحاطته بالمعلومات وعبر عن معلوماته بما في الأرض والسماء مع كونها أوسع من ذلك، لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته وسائر معلوماته، ومن جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه وكفر من كفر.
قوله: 6- "هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء" أصل اشتقاق الصورة من صاره إلى كذا أي أماله إليه، فالصورة مائلة على بيان إحاطة علمه، وأن من جملة معلوماته ما لا يدخل تحت الوجود، وهو تصوير عباده في أحام أمهاتهم من نطف آبائهم كيف يشاء من حسن وقبيح وأسود وأبيض وطويل وقصير. وكيف معمول يشاء والجملة حالية. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن جعفر بن محمد بن الزبير قال: "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب وعبد المسيح والسيد، وهو الأيهم، ثم ذكروا القصة في الكلام الذي دار بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله أنزل في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع، فذكر وفد نجران ومخاصمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام، وأن الله أنزل " الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: "مصدقاً لما بين يديه" قال: لما قبله من كتاب أو رسول. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه، وقال في قوله: "وأنزل الفرقان" هو القرآن فرق بين الحق والباطل، فأحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحد فيه حدوده، وفرض فيه فرائضه: وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهي عن معصيته. وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله: "وأنزل الفرقان" أي: الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، وفي قوله: "إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام" أي: إن الله ينتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته بما جاء منه فيها. وفي قوله: "إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء" أي: قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه رباً وآلهاً، وعندهم من علمه غير ذلك غرة بالله وكفراً به "هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء" قد كان عيسى ممن صور في الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه كما صور غيره من بني آدم، فكيف يكون إلهاً وقد كان بذلك المنزل. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: "يصوركم في الأرحام كيف يشاء" قال: ذكوراً وإناثاً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "يصوركم في الأرحام كيف يشاء" قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوماً، ثم تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون مضغة أربعين يوماً، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكاً يصورها، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه فيخلط منه المضغة، ثم يعجنه بها يصور كما يؤمر فيقول: أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد، وما رزقه، وما عمره، وما أثره وما مصائبه؟ فيقول الله ويكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "يصوركم في الأرحام كيف يشاء" قال: من ذكر أو أنثى، وأحمر وأسود، وتام الخلق وغير تام الخلق.
الكتاب هو القرآن، فاللام للعهد، وقدم الظرف وهو عليك لما يفيده من الاختصاص. وقوله: 7- "منه آيات محكمات" الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدماً، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره من الكتاب آيات بينات على نحو ما تقدم في قوله: "ومن الناس من يقول" وإنما كان أولى، لأن المقصود انقسام الكتاب إلى قسمين المذكورين لا مجرد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب، والجملة حالية في محل نصب أو مستأنفة لا محل لها. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال: فقيل إن المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري، قالوا: وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل: المحكم ما لا يحتمل وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً، وقيل: إن المحكم ناسخه وجرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به. روي هذا عن ابن عباس، وقيل المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، روي عن ابن مسعود وقتادة والربيع والمتشابه: ما فيه تصريف وتحريم وتأويل قاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، وقيل المحكم: ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع إلى غيره، والمتشابه: ما يرجع فيه إلى غيره. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات. قال القرطبي: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم إسم مفعول من أحكم، والإحكام: الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. وقال ابن خويز منداد للمتشابه وجوه ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر والعشر، ومنهم من قال العكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه. والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى عمله سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء أو عدم الظهور أو الاحتمال أو التردد يوجب التشابه، وأهل القول الثاني خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن ذها بعض أوصاف المحكم والمتشابه لا كلها، وهكذا أهل القول الثالث فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها، وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوا جميعاً، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهم من ذلك مما لا سبيل إلى عمله من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما، وصاحب القول السابع وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابهاً، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم. قوله: "هن أم الكتاب" أي: أصله الذي يعتمد عليه، ويرد ما خالفه إليه وهذه الجملة صفة لما قبلها. قوله: "وأخر متشابهات" وصف لمحذوف مقدر: أي وآيات أخر متشابهات وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصرف لأنه عدل بها عن الآخر، لأن أصلها أن يكون كذلك. وقال أبو عبيد: لم ينصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وأنكر ذلك المبرد. وقال الكسائي: لم تنصرف لأنها صفة، وأنكره أيضاً المبرد. وقال سيبويه: لا يجوز أن يكون أخر معدولة عن الألف واللام لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة. قوله: "فأما الذين في قلوبهم زيغ" الزيغ: الميل: ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ زيغاً: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" وهذه الآية تعم كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق. وسبب النزول نصارى نجران كما تقدم، وسيأتي. قوله: "فيتبعون ما تشابه منه" أي: يتعلقون بالمتشابه من الكتاب فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً، ويوردون منه لتفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. قوله: "ابتغاء الفتنة" أي: طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي: يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب "يقول الذين نسوه" أي تركوه "قد جاءت رسل ربنا بالحق" أي: قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله" التأويل يكون بمعنى التفسير، كقولهم تأويل هذه الكلمة على كذا: أي تفسيرها، ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه: أي صار، وأولته تأويلاً: أي صيرته، وهذه الجملة حالية: أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله. وقد اختلف أهل العلم في قوله: "والراسخون في العلم" هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله؟ فتكون الواو للجميع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله، وأن الكلام تم عند قوله: "إلا الله" هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والفراء والأخفش وأبي عبيد وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك واختاره. وحكاه الخطابي عن ابن مسعود وأبي بن كعب قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله، وزعم أنهم يعلمونه، قال: واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: "آمنا به" وزعم أن موضع "يقولون" نصب على الحال وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه، لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبد الله راكباً، يعني: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر: أنشدنيه أبو عمرو قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب: أرسلت فيها رجلاً لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عز وجل: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"، وقوله: "لا يجليها لوقتها إلا هو"، وقوله: "كل شيء هالك إلا وجهه" فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره، وكذلك قوله تعالى: "وما يعلم تأويله إلا الله" ولو كانت الواو في قوله: "والراسخون" للنسق لم يكن لقوله: "كل من عند ربنا" فائدة انتهى. قال القرطبي: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره. فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون: آمنا به. وقال الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم، و"يقولون" على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال: الريح يبكي شجوه والبرق يلمع في الغمامه وهذا البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون والبرق مبتدأ والخبر يلمع على التأويل الأول فيكون مقطوعاً مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعاً انتهى. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله: "يقولون آمنا به" حالاً من أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك، فالفعل مذكور، وهو قوله: "وما يعلم تأويله" ولكنه جاء الحال من المعطوف، وهو قوله: "والراسخون" دون المعطوف عليه، وهو قوله: "إلا الله" وذلك جائز في اللغة العربية. وقد جاء مثله في الكتاب العزيز. ومنه قوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم" إلى قوله: " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا " الآية، وكقوله: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" أي: وجاءت الملائكة صفاً صفاً، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين: آمنا به ليس بصحيح، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الإسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله: "والراسخون في العلم" مبتدأ خبره: "يقولون"، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم، فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به، ولا جعل لخلقه إلى عمله سبيلاً هو من رسوخهم، لأنهم عملوا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل أو الشجر في الأرض، ومنه قول الشاعر: لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله: "هذا تأويل رؤياي"، وقوله: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله" أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويكون قوله: "والراسخون في العلم" مبتدأ، و"يقولون آمنا به" خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله: "نبئنا بتأويله" أي: بتفسيره فالوقف على "والراسخون في العلم" لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون "يقولون آمنا به" حالاً منهم، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو الصحيح فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى. واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه. وقد قدمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما، ونزيدك ها هنا إيضاحاً وبياناً، فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه فواتح السور، فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدرى من يعلم بلغة العرب، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم، آلمر، حم، طس، طسم ونحوها، لأنهلأيأتي لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى، لا باعتبارها نفسها، ولا باعتبارها أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله: "إن الله عنده علم الساعة" إلى آخر الآية، ونحو ذلك وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لا باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز أو في السنة المطهرة أو الأمور التي تعارضت دلالتها، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف فلا شك ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمي ما دل لما ذهب إليه محكماً وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً: سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم. واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى: "كتاب أحكمت آياته" وقوله: "تلك آيات الكتاب الحكيم" والمراد بالمحكم بهذا المعنى أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة والفصاحة على كل كلام وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر ومنه قوله تعالى: "كتاباً متشابها" والمراد بالمتشابه بهذا المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة. وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد: منها أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون، وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا. قوله: "كل من عند ربنا" فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه: أي كله، أو المحذوف غير ضمير: أي كل واحد منهما وهذا من تمام المقول المذكور قبله. وقوله: " وما يذكر إلا أولو الألباب " أي العقول الخالصة: وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية.
وقوله: 8- "ربنا لا تزغ" إلخ من تمام ما يقوله الراسخون: أي يقولون آمنا به كل من عند ربنا، ويقولون: "ربنا لا تزغ قلوبنا" قال ابن كيسان: سألوا ألا يزيغوا قلوبهم نحو قولهم تعالى: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " كأنهم لما سمعوا قوله سبحانه: " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " قالوا: "ربنا لا تزغ قلوبنا" باتباع المتشابه "بعد إذ هديتنا" إلى الحق بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات والظرف وهو قوله: بعد منتصب بقوله: "لا تزغ". قوله: "وهب لنا من لدنك رحمة" أي كائنة من عندك، ومن لابتداء الغاية ولدن بفتح اللام وضم الدال وسكون النون، وفيه لغات أخر من هذه أفصحها وهو ظرف مكان وقد يضاف إلى الزمان، وتنكير رحمة للتعظيم أي رحمة عظيمة واسعة وقوله: "إنك أنت الوهاب" تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤول.